لشطرنج
طباعة | البريد الإلكتروني | الزيارات: 6457
الشطرنج:
ومن الألعاب العقلية المعروفة عالميا، والمتوارثة تاريخيا: لعبة (الشطرنج). وقد ظهرت في عصر الصحابة، واختلف في شأنها الفقهاء ما بين محرم وكاره ومبيح، ومفصِّل.
متي ظهر الشطرنج في الحياة الإسلامية ؟
الشطرنج ـ بكسر الشين وقد تفتح ـ لعبة تلعب على رقعة ذات أربعة وستين مربعًا، وتمثل دولتين متحاربتين باثنتين وثلاثين قطعة، تمثل الملكين والوزيرين والخيالة والقلاع والفيلة والجنود ... (هندية).
هذا ما عرفها به "المعجم الوسيط".
وقد اتفق العلماء من فقهاء ومفسرين ومحدثين وشراح على أنها لم تعرف عند العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفوها بعد الفتح(1) ، فقد نقلوها عن الفرس الذين كانوا قد نقلوها عن الهنود.
قيمة الأحاديث الواردة فيه
ونظرًا؛ لأنه لم يكن في عصر النبوة لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث في شأنه، وإن رويت فيه أحاديث من نوع "إن لله عز وجل في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه (الشاه بالفارسية هو: الملك. ومعروف في الشطرنج أن اللعبة تنتهي إذا قضي أحد الخصمين على ملك الآخر). منها نصيب" رواه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وحكم الألباني بوضعه في "الإرواء" رقم "2671".
ومثله ما رواه الديلمي عن ابن عباس رفعه: "ألا إن أصحاب الشاه في النار: الذين يقولون: قتلت والله شاهك" (2).
وعن أنس مرفوعا: "ملعون من لعب بالشطرنج" (3).
وعن علي مرفوعا: "يأتي على الناس زمان يلعبون بها، ولا يلعب بها إلا كل جبار، والجبار في النار" (4).
قال الحافظ ابن كثير: والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء، ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة. (5)
ومن هنا لم يستدل أحد من الأئمة الذين ذهبوا إلى تحريمه بشيء من هذه الأحاديث، ولو كان لها قيمة علمية عندهم لاستندوا إليها، إنما استدل بها بعض المتأخرين.
وقال الإمام أحمد رغم تشديده فيه: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه (6)، يعني أنه لم يثبت فيه شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي أن قول علي نفسه غير ثابت عنه.
سبب الاختلاف في حكمه:
ولعدم وجود نص شرعي في شأن لعبة الشطرنج يبين الحكم، ويحسم الأمر، اختلف الفقهاء في حكمه، ما بين مبيح له، وكاره، ومحرم، كمعظم المسائل التي لا توجد فيها نصوص بينة ملزمة، وهذا من فضل الله على الناس، ولطفه بهم، وتيسيره عليهم، أن سكت عن أشياء، رحمة بهم غير نسيان (وما كان ربك نسيًا) مريم: 64.
قال العلامة ابن حجر الهيثمي في شرحه لمنهاج النووي، في شأن الأحاديث المحكية في ذم الشطرنج: (قال الحافظ: لم يثبت منها شيء من طريق صحيح ولا حسن. وقد لعبه جماعة من أكابر الصحابة، ومن لا يحصى من التابعين ومن بعدهم.
قال: وممن كان يلعبه غبًّا: سعيد بن جبير رضي الله عنه (7). ومعنى غبًّا أي قليلاً.
وقد نقل الحافظ البيهقي في سننه عن الإمام الشافعي، بعد أن ذكر قبول شهادة أهل الأهواء على ما في أقوالهم من بعد عن الصواب في نظره قال: (قال الشافعي): وإذا كانوا هكذا ـ يعني أهل الأهواء ـ فاللاعب بالشطرنج وإن كرهنا له، وبالحمام وإن كرهنا له: أخف حالا من هؤلاء بما لا يحصى ولا يقدر. وإنما قال ذلك لما فيه أيضا من اختلاف العلماء.
ونقل البيهقي عن الشافعي قوله: لعب سعيد بن جبير بالشطرنج من وراء ظهره، فيقول: بإيش دفع كذا؟ قال: بكذا قال: أدفع بكذا.
وكذلك قال الشافعي: كان محمد بن سيرين وهشام بن عروة يلعبان بالشطرنج استدبارا.
ونقل بسنده عن معمر قال: بلغني أن الشعبي كان يلعب الشطرنج ويلبس ملحفة ويرخي شعره، وذلك أنه كان متواريا من الحجاج.
وروى بسنده عن معقل بن مالك الباهلي قال: خرجت من المسجد الجامع فإذا رجل قد قربت إليه دابة فسأل رجل: ما كان الحسن يقول في الشطرنج؟ فقال: كان لا يرى بها بأسا، وكان يكره النردشير. فقلت: من هذا؟ فقالوا: ابن عون، وكان مضبب الأسنان بالذهب.
ونقل بسنده عن أحمد بن بشير قال: أتيت البصرة في طلب الحديث فأتيت بهز بن حكيم، فوجدته مع قوم يلعب بالشطرنج.
وروى عن الرمادي قال: سمعت سفيان يقول: رأيت إبراهيم الهجري وكان يلعب بالشطرنج. قال البيهقي: فجعل الشافعي اللعب بالشطرنج من المسائل المختلف فيها في أنه لا يوجب رد الشهادة. فأما كراهية اللعب بها فقد صرح بها فيما قدمنا ذكره، وهو الأشبه والأولى بمذهبه، فالذين كرهوا أكثر، ومعهم من يحتج بقوله وبالله التوفيق.
وروى البيهقي بسنده عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: الشطرنج هو ميسر الأعاجم. قال: هذا مرسل ولكن له شواهد.
كما روى عنه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).
وروى عنه أيضا أنه مر بمجلس من مجالس تيم الله، وهم يلعبون بالشطرنج، فوقف عليهم فقال: أما والله لغير هذا خلقتم، أما والله لولا أن تكون سنة لضربت بها وجوهكم.
قلت ( القرضاوي ): ولو كان حراما لضرب بها وجوههم ولم يبال.
وروى عن مالك قال: الشطرنج من النرد، بلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فأحرقها. وهذا بلاغ غير موصول السند عن ابن عباس.
وروى عن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج فقال: هو شر من النرد.
وروى البيهقي بسنده أن أبا موسى الأشعري قال: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ.
وعن عبيد الله بن جعفر قال: كانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكره الكبل وإن لم يقامر عليها، وأبو سعيد الخدري يكره أن يلعب بالشطرنج.
أقول: وهذه الأسانيد عن الصحابة لا تخلو من كلام.
وعن صالح بن أبي يزيد قال: سألت ابن المسيب عن الشطرنج، فقال: هي باطل ولا يحب الله الباطل.
وعن ابن شهاب أنه سئل عن لعب الشطرنج فقال: هي من الباطل ولا أحبها. وسئل مرة فقال: هي من الباطل والله لا يحب الباطل.
وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية.
قال البيهقي: وروينا في كراهية اللعب بها عن يزيد بن بن حبيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ومالك بن أنس. (
مذهب الحنفية في اللعب بالشطرنج:
قد رأينا أن الشطرنج لم يثبت فيه نص شرعي يمنعه، وأن الصحابة والتابعين اختلفوا فيه، وأن الأصل في الأشياء والتصرفات الإباحة، ولهذا كان في المذاهب الأربعة من قال بالإباحة، ومن قال بالكراهة، ومن قال بالتحريم، تبعا للزاوية التي ينظر منها، والملحظ الذي يستند إليه.
ومن هنا وجدنا في المذهب الحنفي قول الإمام أبي يوسف أكبر أصحاب أبي حنيفة بإباحته، ورأينا القول المعتمد في المذهب هو الكراهية، ما لم يخرجه عنها إلى التحريم سبب، كما سيأتي. وهذا واضح في المتون المعتمدة في المذهب، مثل: (الهداية) و(الكنز) و(المختار) و(تنوير الأبصار) وغيرها، وكذلك في شروحها المعروفة.
فهذه المتون وشروحها تعرضت للعب الشطرنج في كتاب "الشهادات" عند الحديث عمن لا تقبل شهادته، وأحيانًا في كتاب "الكراهية" أو "الحظر والإباحة" على اختلاف التسميات عند الحنفية.
وقد أجمعت هذه المتون على أن الذي يقامر بالشطرنج، هو الذي تسقط عدالته، وترد شهادته؛ لأنه ارتكب حرامًا، بل كبيرة، لدخول الميسر ـ وهو القمار ـ في اللعب، والميسر قرين الخمر، في كتاب الله تعالى.
وبعضهم أضاف إلى المقامرة أمورًا أخرى، كل واحد منها كافٍ لإسقاط عدالته، كأن تفوته بسبب الاشتغال به الصلاة، أو يكثر من الأيمان الكاذبة عليه، أو يلعب به في الطريق لمخالفته للمروءة، أو يذكر عليه فسقًا، أو يدمنه ويداوم عليه (9).
قال في "الهداية": (فأما مجرد اللعب بالشطرنج فليس بفسق مانع من الشهادة؛ لأن للاجتهاد فيه مساغًا) (10).
ولما قرن متن "الكنز" بين النرد والشطرنج في أن من يقامر بهما أو تفوته بسببهما الصلاة ترد شهادته، قال شارحه ابن نجيم في "البحر": (ظاهر تقييده بما ذكر: استواء النرد والشطرنج، وليس كذلك فإن اللعب بالنرد مبطل للعدالة مطلقًا، كما في "العناية" وغيرها، للإجماع على حرمته، بخلاف الشطرنج؛ لأن للاجتهاد فيه مساغا؛ لقول مالك والشافعي بإباحته، وهو مروي عن أبي يوسف، كما في "المجتبى" من الحظر والإباحة، واختارها ابن الشحنة إذا كان لإحضار الذهن، واختار أبو زيد الحكيم حله، ذكره شمس الأئمة السرخسي. (11)
مذهب الشافعية في الشطرنج:
ومذهب الشافعية أكثر تيسيرًا في حكمه، كما هو مشهور عنهم، وكما ذكره البيهقي وغيره.
قال الإمام النووي في "الروضة":
(اللعب بالشطرنج مكروه: وقيل: مباح لا كراهة فيه. ومال الحليمي إلى تحريمه، واختاره الروياني. والصحيح الأول) (12) يعني الكراهة، والظاهر: أنها الكراهة التنزيهية، فهذا هو المتبادر عند الشافعية.
وهذا ما نص عليه في "المنهاج" أيضًا حيث قال: (ويحرم اللعب بالنرد على الصحيح، (13) ويكره بشطرنج).
قال في "التحفة": (ونازع البلقيني في كراهته بأن قول الشافعي: لا أحبه، لا يقتضيها) (14).
وقال النووي في الروضة بعد أن صحح القول بالكراهة: (فإن اقترن به قمار أو فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدًا، ردت شهادته بذلك المقارن ـ أي لا باللعب نفسه ـ وإنما يكون قمارًا إذا شرط المال من الجانبين، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غُلِب، ويمسكه إن غلب، فليس بقمار، ولا ترد به شهادته، ولكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال، فلا يصح، ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدًا، ولكن شغله اللعب به حتي خرج، وهو غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه لم ترد شهادته، وإن كثر منه فسق، وردت شهادته، بخلاف ما إذا تركها ناسيًا مرارا؛ لأنه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة. هكذا ذكروه، وفيه إشكال، لما فيه من تعصية (15) الغافل اللاهي، ثم قياسه الطرد في شغل النفس بغيره من المباحات). (16)
والأولى أن نذكر هنا كلمة الشافعي بنصها من "الأم" قال رضي الله عنه: (يكره ـ من وجه الخبر ـ اللعب بالنرد أكثر مما يكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا نحب اللعب بالشطرنج، وهو أخف من النرد، ويكره اللعب بالحزة والقرق، وكل ما للعب الناس؛ لأن اللعب ليس من صنعة أهل الدين ولا المروءة، ومن لعب بشيء من هذا على الاستحلال له لم ترد شهادته، والحزة تكون قطعة خشب فيها حفر بها يلعبون بها، إن غفل به عن الصلوات فأكثر حتى تفوته، ثم يعود له حتى تفوته، رددنا شهادته على الاستخفاف بمواقيت الصلاة، كما نردها لو كان جالسًا فلم يواظب على الصلاة من غير نسيان ولا غلبة على عقل) (17).
مذهب مالك في اللعب بالشطرنج:
وفي مذهب مالك نجد الإمام ابن رشد "الجد" ينقل عن العتيبية" في "البيان والتحصيل": (سئل مالك عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب والسن عن الباطل، وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء: أما آن أن تنهاك لحيتك هذه ؟ قال أسلم: فمكثت زمانًا طويلاً وأنا أظن أن ستنهاني). (18) وسئل مالك أيضًا عن الرجل يلعب مع امرأته في البيت بالأربعة عشر، قال: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) يونس: 32.
وعلق على ذلك ابن رشد فقال: (الأربعة عشر قطع معروفة كان يلعب بها كالنرد، وهو النردشير الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" (19) و"من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير" (20) . وكذلك الشطرنج له حكمه، وقد قال فيه الليث بن سعد: إنه شر من النرد، فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطر لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء؛ لأنه من الميسر الذي قال الله فيه: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة:93. وأما اللعب بشيء من ذلك كله على غير وجه القمار فلا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصي الله ورسوله" فعم ولم يخص قمارًا من غيره. فمن أدمن اللعب بشيء من ذلك كله كان قدحًا في إمامته وشهادته، وقد كان عبد الله بن عمر إذا رأى أحدًا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها. وبلغ عائشة رضي الله عنها: أن أهل بيت في دارها كانوا سكانًا فيها عندهم النرد، فأرسلت إليهم: "لئن لم تخرجوه لأخرجنكم من داري" وأنكرت ذلك عليهم، ذكر ذلك مالك في موطئه.
قال: ولا فرق في ذلك كله بين لعب الرجل به مع أجنبي في بيته أو في غير بيته، وبين لعبه به مع أهله في بيته. إن كان على الخِطار (المخاطرة) والقمار، فذلك حرام بإجماع، وإن كان على غير القمار فهو من المكروه الذي تسقط شهادة من أدمن اللعب به، وهو الذي قال مالك فيه في هذه الرواية: ما يعجبني ذلك، وليس من شأن المؤمن اللعب، لقول الله تبارك وتعالى: (فماذا بعد الحق إلا الضلال) فهذا من الباطل، وبالله تعالى التوفيق). (21)
وكلمة "الباطل" لا تعني أنه حرام، بل تعني أنه من اللهو واللعب، وليس كل لهو ولعب حرامًا، وإن قال بذلك بعض المالكية، وأخذا من كلام مالك (22)، وهو لا يفيد ذلك.
كيف وهو يقول عن الشطرنج: لا خير فيه، وليس بشيء، ولا يعجبني، وأنه لا يليق بذي اللحية والشيب والسن، وهذا كله لا يدل على أكثر من الكراهية التنزيهية.
مذهب الحنابلة:
وأما مذهب الحنابلة، فيعبر عنه الإمام ابن قدامة في "المغني" فيقول: (كل لعب فيه قمار فهو محرم، أي لعب كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته، وما خلا من القمار ـ وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما ـ فمنه ما هو محرم، ومنه ما هو مباح، فأما المحرم فاللعب بالنرد، وهذا قول أبي حنيفة، وأكثر أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: هو مكروه غير محرم.
واستدل ابن قدامة لمذهبه بالحديثين اللذين ذكرهما ابن رشد وذكرناهما من قبل.
قال: (إذا ثبت هذا، فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته، سواء لعب به قمارًا أو غير قمار، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وظاهر مذهب الشافعي.
فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم، إلا أن النرد آكد منه في التحريم؛ لورود النص في تحريمه، لكن هذا في معناه، فيثبت فيه حكمه، قياسًا عليه.
وذكر القاضي حسين، ممن ذهب إلى تحريمه: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والقاسم، وسالمًا، وعروة، ومحمد بن علي بن الحسين، ومطرا الوراق، ومالكًا، وقول أبي حنيفة.
وذهب الشافعي إلى إباحته، وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، واحتجوا بأن الأصل الإباحة، ولم يرد بتحريمها نص، ولا هي في معنى المنصوص عليه، فيبقى على الإباحة، ويفارق الشطرنج النرد من وجهين:
أحدهما: أن في الشطرنج تدبير الحرب، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل.
والثاني: أن المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان، فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام.
ولنا قول الله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) المائدة:90.
قال علي رضي الله عنه: الشطرنج من الميسر.
ومرّ علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) الأنبياء:52 .
قال أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه.
وروى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ليس لصاحب الشاه فيها نصيب" رواه أبو بكر بإسناده؛ ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، فأشبه اللعب بالنرد.
وقولهم: لا نص فيها، قد ذكرنا فيها نصًا، وهي أيضًا في معنى النرد المنصوص على تحريمه، وقولهم: إن فيها تدبير الحرب، قلنا: لا يقصد هذا منها، وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار، وقولهم: إن المعول فيها على تدبيره، فهو أبلغ في اشتغاله بها وصدها عن ذكر الله والصلاة.
إذا ثبت هذا؛ فقال أحمد: النرد أشد من الشطرنج، وإنما قال ذلك لورود النص في النرد، والإجماع على تحريمه ،(23) بخلاف الشطرنج، وإذا ثبت تحريمه فقال القاضي: هو كالنرد ترد الشهادة به، وهذا قول مالك وأبي حنيفة (24)؛ لأنه محرم مثله.
وقال أبو بكر: إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه، وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته، إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها، أو يخرجه إلى الحلف الكاذب، ونحوه من المحرمات، أو يلعب بها على الطريق، أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله، ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة، وهذا مذهب الشافعي، وذلك لأنه مختلف فيه، فأشبه سائر المختلف فيه) (25)
مناقشة أدلة القائلين بتحريم الشطرنج:
تلك هي مذاهب الأئمة، وأقوال الفقهاء، في حكم الشطرنج، وهي تختلف ما بين الإباحة بشروط والكراهة، والتحريم.
وإذا نظرنا إلى ما استند إليه الذين شددوا ومالوا إلى التحريم، نجد أدلتهم تتركز فيما يلي:
1ـ قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) . وقول علي: "الشطرنج من الميسر".
2ـ ما ورد من أحاديث في ذم الشطرنج والوعيد عليه، ولعن أهله، مثل ما ذكره ابن قدامة في "المغني"، وما ذكرناه من قبل مما رواه ابن أبي الدنيا والديلمي وغيرهما.
3ـ ما ورد في النهي عن "النرد" أو "النردشير" مثل:
أ ـ حديث أبي موسى: "من لعب النردشير فقد عصى الله ورسوله". (26)
ب ـ وكذلك حديث بريدة: "من لعب النردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه". (27) والنردشير هو: النرد. فارسي معرب. وشير معناه: حلو.
قالوا: وقد انعقد الإجماع على تحريم النرد، قامر به، أو لم يقامر.
4ـ حديث: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه وملاعبته أهله، فإنهن من الحق". (28)
والشطرنج خارج عن هذه الثلاثة، فهو باطل، والباطل حرام.
5ـ ما جاء عن الصحابة أنهم أنكروه، ومنه ما روي أن عليًا رضي الله عنه مر على قوم يلعبون الشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) !.
6ـ القياس على النرد، فكلاهما لهو ولعب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، بل ذهب بعضهم إلى أن الشطرنج شر من النرد في هذا؛ لأنه يشغل فكر صاحبه وقلبه أكثر مما يشغله النرد.
مناقشة أدلة المحرمين:
والمتأمل في هذه الأدلة التي اعتمد عليها القائلون بتحريم الشطرنج، يجد أن شيئًا منها لا يثبت للنقد، ولا يمكن أن يعتمد عليه في التحريم الذي ينبغي الاحتياط فيه، حتى لا نحرم ما أحل الله.
آية سورة المائدة:
فأما الاستدلال بأية سورة المائدة التي دلت على تحريم الخمر والميسر، فلا نزاع في أن الميسر محرم كالخمر، وفيه إثم كبير بنص القرآن، فهو من الكبائر، وليس مجرد حرام.
ولكن أين الدليل على أن الشطرنج من الميسر ؟
سيقولون: قول علي: إنه من الميسر، وسيأتي أن هذا القول عن علي لم يثبت.
على أنه لو سلمنا بثبوته لحمل على أنه من الميسر إذا لعب على قمار، لا لمجرد اللهو والتسلية.
أحاديث ذم الشطرنج والوعيد عليه:
أما أحاديث ذم الشطرنج والوعيد الشديد عليه، ولعن فاعله .. إلخ، فقد بين الأئمة من نقاد الحديث: أن شيئًا منها لم يثبت، ولم يقل إمام من أئمة الحديث بصحة حديث واحد منها، ولا بحسنه، وقد نقلنا قول الإمام أحمد، وقول ابن كثير وغيرهما.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رغم تشدده جدًا في أمر الشطرنج، لم يستدل بحديث واحد منها، إنما اعتمد على أنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة.
أحاديث تحريم النرد:
فأما الأحاديث التي استنبط منها بعضهم تحريم النرد، فنحن نسلم بها في الجملة، وإن كان الحديث الأول عن أبي موسى في سنده انقطاع، وقد روي موقوفًا من قوله، كما ذكر ابن كثير في تفسير آية: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ...) وله شاهد لم يسلم من مقال، ولهذا قال الشيخ الألباني في تخريج أحاديث منار السبيل: لا بأس به في الشواهد والمتابعات "حديث 2670".
والصحيح هنا حديث بريدة عند مسلم: "فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه" وغمس اليد في لحم الخنزير مقدمة إلى أكله، وفيه إشارة إلى التحريم، كما قال الشوكاني؛ لأن التلوث بالنجاسات من المحرمات؛(29) وقول الشوكاني: فيه إشارة إلى التحريم، يعني: أنه ليس صريحا في التحريم.
والمذاهب الأربعة وجمهور العلماء مجمعون على تحريم النرد، قال الشوكاني: (وقد كرهها عامة الصحابة، وروي أنه رخص فيها ابن المسيب وابن مغفل على غير قمار). (30) بل روي أن من الصحابة والتابعين من أباحها صراحة.
وكلام الإمام الشافعي الذي نقلناه من قبل لا يدل على تحريمه. وقد صرح بعض الشافعية بكراهته فقط. وهو الذي أميل إليه لعموم البلوى.
و على كل حال فتحريم النرد هو الراجح عند الجمهور، وأنا لا أنازع الآن فيه، ولكن الذي أنازع فيه أن يقال: الشطرنج هو النرد، أو هو منه.
فالنرد لعبة معروفة من لعب الفرس، وقد نقلت إلى العرب قبل الإسلام، وعرفوها، ولهذا جاءت فيها أحاديث وآثار صحاح وحسان.
وهو الذي يسمي (الزهر) ويطلق عليه في مصر "الطاولة" قال في المعجم الوسيط: النرد لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين، تعتمد على الحظ، وتنتقل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفص: الزهر. وتعرف عند العامة بـ "الطاولة".
أما الشطرنج، فهو لعبة أخرى أصلها من الهند، ونقلت إلى فارس، ولم يعرفها العرب إلا بعد الفتح.
حديث: "كل ما يلهو به المسلم باطل .. ":
أما حديث: "كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا .." فالباطل هنا ليس معناه الحرام كما قد يتوهم، وإنما الباطل ما ليس فيه فائدة دينية في ذاته، فهو أشبه بكلمة "اللغو".
ولا ريب أن اشتغال المسلم بالحق وبالأمور النافعة أولى وأجدى، لما وصف به الله المؤمنين، بقوله: (والذين هم عن اللغو معرضون) المؤمنون: 3.
ولكن لا يعني هذا أن اللهو أو اللعب بغير الأمور الثلاثة المذكورة حرام؛ فقد لعب الحبشة (31) ورقصوا في مسجده صلى الله عليه وسلم يوم العيد وهو ينظر إليهم ويشجعهم، وعائشة معه تنظر إليهم.
وقد حث عليه الصلاة والسلام أن يكون مع العرس لهو، إشاعة للبهجة والفرح، حتى لا يكون عرسًا صامتًا. وشرع المصارعة والمسابقة على الأقدام كمسابقته لعائشة، كما سبّق بين الخيل، وأعطي السابق (32).
وكلها خارج عن الثلاثة المذكورة.
وفي هذا المعنى حديث آخر رواه النسائي في "كتاب عشرة النساء" والطبراني في "الكبير" عن جابر بن عبد الله، وجابر بن عمير الأنصاريين مرفوعًا بلفظ: "كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لغو ولهو، أو سهو، إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعلم السباحة".(33)
والنص هنا وضع كلمة "لغو ولهو" أو "سهو" موضع كلمة "باطل" في الحديث الآخر، مما يحدد المقصود بها، كما أضاف الحديث هنا إلى الثلاثة رابعًا، وهو "السباحة" مما يدل على أن الحصر في الثلاثة غير مراد.
وقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه وهو من زهاد الصحابة ونُسَّاكهم: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل، ليكون أقوي لها على الحق (34).
وواضح أن مراده بالباطل هنا هو: اللهو واللعب، فهو يستعين به على تنشيط نفسه للحق، بعد أن تأخذ شيئًا من الاستجمام والراحة، كما قال الشاعر:
والنفس تسأم إن تطاول جدها فاكشف سآمة جدها بمزاح
وقال الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب "السماع" من "إحيائه" في الرد على من احتجوا بالحديث المذكور على تحريم الغناء كله: (قوله: "باطل" لا يدل على التحريم، بل يدل على عدم الفائدة، وقد يسلم ذلك، على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة، وليس بحرام، بل يلحق بالمحصور غير المحصور، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث .." (35) فإنه يلحق به رابع وخامس. فكذلك ملاعبة امرأته لا فائدة له إلا التلذذ، وفي هذا دليل على أن التفرج في البساتين، وسماع أصوات الطيور وأنواع المداعبات، مما يلهو به الرجل لا يحرم عليه شيء منها، وإن جاز وصفه بأنه باطل).(36) وعلق الإمام الشوكاني على قول الإمام الغزالي: قوله (باطل) لا يدل على التحريم بل على عدم الفائدة: قال: وهو جواب صحيح، لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح.(37)
وما قاله ابن حزم في الرد على من قال: الغناء ليس من الحق فهو إذن من الباطل، من أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي. يقال هنا أيضًا.
فمن نوى باللعب ترويح النفس واستجمامها، لتستطيع مواصلة السير على طريق الحق، واحتمال أعبائه وما أثقلها ! فهو محسن مأجور كما يؤجر في كل المباحات بنيته.
ومن لم يقصد إلا الترويح والترفيه دون أن يخطر بباله الاستعانة على الطاعة، فقد أتى أمرًا مباحًا بشروطه.
ما جاء عن الصحابة في ذمه:
وأما ما جاء عن الصحابة، فليس فيها أثر متصل صحيح.
وقد ذكر الحافظ السخاوي في كتابه: "عمدة المحتج في حكم الشطرنج": أن الإمام أحمد قال: أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه.
وقول علي يحتمل قوله حين مر على لاعبي الشطرنج: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) ؟ !
ويحتمل ما رواه عنه جعفر بن محمد عن أبيه: الشطرنج من الميسر.
والأول ليس له إسناد صحيح أو حسن متصل، كما بين ذلك العلامة الألباني في "إرواء الغليل" بأن هذا الأثر لا يثبت عن علي، وأن خير أسانيده منقطع.(38)
وقال ابن حجر في الدراية: أخرجه العقيلي وابن حبان في ترجمة مطهر بن الهيثم وهو متروك، وفي رجاله متروكان مجهولان أيضا.(39)
على أن هذا الأثر لو صح لا يفيد التحريم جزمًا، إنما يفيد مجرد الإنكار على الاشتغال بهذا اللهو، وإلا لو كان حرامًا ومنكرًا، لغيره بيده، فهو الإمام المسئول وبيده السلطة.
وأما الأثر الثاني فقد نقل الشوكاني عن ابن كثير قوله: هو منقطع جيد (40). ولا حجة في منقطع لو كان مرفوعًا، فكيف وهو موقوف ؟
وقول الإمام أحمد: أصح ما في الشطرنج قول علي، لا يدل على أنه صحيح عنده، بل يعني أنه أحسن من غيره، وإن كان ضعيفًا في نفسه، كما بيّن ذلك المحققون في قولهم: أصح ما في الباب كذا، أي أقل ضعفًا.
وما روي عن الصحابة في ذلك يعارض بعضه بعضًا، فقد روي عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد، وعائشة: أنهم كرهوه.
ورويت إباحته عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأضيف إليهم من التابعين ابن سيرين وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومن بعدهم هشام بن عروة بن الزبير.(42)
ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لم يجمعوا على أمر، فإنهم لا يجتمعون على ضلالة. وقد رأيناهم اختلفوا، وفي اختلافهم رحمة.
ولم يثبت في الشطرنج بخصوصه حديث مرفوع بوجه، وقد ذكرنا من قبل قول الحافظ ابن كثير: (والأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء، ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة).(42)
القياس على النرد:
وأما من احتج على تحريمه بقياسه على النرد باعتبار أن علة التحريم هي اللهو واللعب، أو باعتباره شرًا من النرد باعتبار العلة الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهو أبلغ من النرد في ذلك ـ فهذا غير مسلم؛ لأنه قياس مع الفارق؛ فقد فارق النرد ـ كما قالوا ـ بأن الشطرنج معتمده: الحساب الدقيق، والفكر الصحيح، ففيه تشحيذ الفكر، ونوع من التدبير، ومعتمد: النرد الحظ والتخمين المؤدي إلى غاية من السفاهة والحمق. وقد قاسوا عليهما كل ما في معناهما من أنواع اللهو، فكل ما معتمده الحساب والفكر لا يحرم، وكل ما معتمده التخمين يحرم(43) . فالمُعَوّل في النرد على ما يخرجه الفصان، فأشبه الأزلام. والمعول في الشطرنج على حذقه وتدبيره، فأشبه المسابقة بالسهام.
كما أضافوا إلى ذلك: أنه يعين على تدبير الحرب، وإدراك المعارك، فأشبه اللعب بالحراب، والرمي بالنشاب، والمسابقة بالخيل.
وهذا في الحقيقة غير مسلَّم؛ فليس هناك ارتباط بين إتقان لعبة الشطرنج وإتقان فن الحرب، وإدارة رحى القتال، وأمهر اللاعبين للشطرنج ربما لا يدري في فن الحرب شيئًا !
وحسبنا الفرق الأول، وهو ـ عند الأكثرين ـ مؤثر وكاف؛ وإن بالغوا في تصوير (النرد) بأن معتمده الحظ وحده؛ إذ الواقع أن فيه مجالا غير قليل للعقل والتفكير، ولذا نجد الأذكياء يتبارون في هذه اللعبة ( الطاولة) ويقضون معها الساعات الطوال، فهي من هذا الوجه تشبه الشطرنج.
والقول بأنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة غير مُسلّم أيضًا، ما دام من يقول بإباحته يقيدها بشرط ألا يشغله عن الصلاة، أو أي واجب آخر ديني أو دنيوي.
وكثير من المباحات إذا استرسل الإنسان فيها، وخصوصًا المحببة منها إلى النفس، تشغل وتلهي عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن الواجبات، إذا لم يكن المسلم نير البصيرة، قوي الإرادة، ولكن هذا لا يجعلها محظورة بإطلاق، بل تباح بقيد عدم الإسراف فيها والاشتغال بها عما أوجب الله عليه.
فلو أن مسلمًا كان في إجازة ولديه فراغ وقت، فخصص للعب به وقتًا معينًا ليس فيه صلاة مفروضة كوقت الضحى ـ من التاسعة إلى الحادية عشرة مثلا ـ لم يكن في ذلك منع ولا تحريم، لا سيما أن بعض الناس يشتغل بها عن الغيبة والقيل والقال، مما يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب.
وكم تأتي على الإنسان ظروف لا يجد فيها ما يشغل فراغه، إلا مثل هذا النوع من اللهو. وقد جربنا هذا في بعض الأوقات العصيبة، التي مرت بنا في المعتقلات "سنة 1954-1956م"؛ فقد أُخذت منا الكتب والأوراق والأقلام ثم أخذت المصاحف، ولم يبق معنا شيء نشغل وقتنا به، وهو يمضي بطيئًا ثقيلاً، فكل يوم كأنه شهر أو دهر، وبخاصة من كان له زوجة أو أولاد تركهم ولا يدري عنهم شيئًا، كما لا يدرون عنه شيئًا، فبأي شيء يشتغل هؤلاء المحبوسون المظلومون ؟
لا يمكن أن تكلف الناس أن يظلوا صباحهم ومساءهم: مسبحين مهللين مكبرين؛ فالنفس البشرية لها طاقة، و (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .
ولهذا لجأ إخواننا ـ داخل زنازين السجن الحربي ـ إلى عمل أحجار الشطرنج من قطع الصابون الرديء الذي يصرف لنا، واتخذوا منه وسيلة لتمضية الوقت عندما سمحت الأوضاع بذلك، فقد كان مثل هذا أيضًا من الممنوعات؛ لأن كل ما يريح أنفس المعتقلين أو يسليهم فالأصل فيه هو المنع والحظر، والمطلوب هو التكدير والتنغيص الدائم.
وأعتقد أن مثل هذه الظروف هي التي جعلت بعض التابعين مثل سعيد بن جبير والشعبي يلعبون بها، في فترة تواريهم عن الحجاج، بعد معركة "دير الجماجم" 82 هـ التي اشترك فيها الفقهاء مع القائد عبد الرحمن بن الأشعث ضد ظلم الحجاج وجبروته.
ففي هذه الفترة حيث لا يستطيع العالم الفقيه أن يتصدى للتعليم والفتيا والإرشاد لتواريه عن الأعين، وليس معه كتبه ومراجعه، لا بأس أن يلهو بمثل الشطرنج، حتى يكشف الله الغمة.
خلاصة القول: الإباحة بشروط:
وخلاصة القول الذي انتهى إليه البحث والنظر في الأقوال، والأدلة، هو الترجيح أن يكون الأصل في حكم الشطرنج هو الإباحة بالقيود والشروط التي ذكرها الشافعية والحنفية في كتبهم، وهي:
1ـ ألا يلعب بقمار، وإلا كان حرامًا، بل من الكبائر باتفاق.
2ـ ألا يُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، أو أي واجب ناجز من أمور الدين والدنيا. فإن القرآن علل النهي عن الخمر والميسر بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة. فدل على وجوب مراعاة هذا الأمر.
3ـ أن يمتنع من سيء القول ورديء الكلام كالسب والشتم، وكثرة الحلف الذي يحدث كثيرًا بين اللاعبين.
4ـ ألا يلعب به على الطريق، لما فيه من الإخلال بالمروءة، وعدم رعاية حق الطريق.
5ـ ألا يكثر منه بحيث يصل إلى درجة الإدمان، الذي يشبه - إلى حد ما- إدمان تناول المسكرات، وغيرها من المخدرات.
وبعبارة أخرى موجزة: ألا يؤدي إلى ترك واجب أو يستلزم فعل محرم، أو يخرج به عن حدود الاعتدال إلى الإسراف والإدمان، فإن الله لا يحب المسرفين.
ويسرني أن أختم هنا بكلمة مشرقة للعلامة رشيد رضا قرأتها أخيرًا في تفسير المنار. قال رحمه الله:
(إن اللعب بالشطرنج إذا كان على مال دخل في عموم الميسر، وكان محرمًا بالنص كما تقدم، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه، قياسًا على الخمر والميسر، إلا إذا تحقق فيه كونه رجسًا من عمل الشيطان، موقعًا في العداوة والبغضاء، صادًّا عن ذكر الله وعن الصلاة، بأن كان هذا شأن من يلعب به دائمًا أو في الغالب. ولا سبيل إلى إثبات هذا، وإننا نعرف من لاعبي الشطرنج من يحافظون على صلواتهم، وينزهون أنفسهم عن اللجاج والحلف الباطل. وأما الغفلة عن الله تعالى فليست من لوازم الشطرنج وحده، بل كل لعب وكل عمل فهو يشغل صاحبه في أثنائه عن الذكر والفكر فيما عداه إلا قليلاً، ومن ذلك ما هو مباح وما هو مستحب أو واجب. كلعب الخيل والسلاح والأعمال الصناعية التي تعد من فروض الكفايات، ومما ورد النص فيه من اللعب: لعب الحبشة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم- بحضرته، وإنما عيب الشطرنج أنه من أشد الألعاب إغراء بإضاعة الوقت الطويل، ولعل الشافعي كرهه لأجل هذا، ونحمد الله الذي عافانا من اللعب به وبغيره، كما نحمده حمدًا كثيرًا أن عافانا من الجرأة على التحريم والتحليل، بغير حجة ولا دليل).(44)
________________
(1) ذكر ذلك الحافظ الحجة ابن كثير في "إرشاده" كما في نيل الأوطار (8/259) ط دار المعرفة ـ بيروت.
(2) رواه الديلمي في " الفردوس " (1/173).
(3) رواه الديلمي في " الفردوس " (4/126) عن أنس، وحكم الألباني عليه بالوضع في السلسلة الضعيفة برقم (1145).
(4) رواه الديلمي في " الفردوس " (5/440). عن علي مرفوعا .
(5) ذكر هذه الأحاديث وتعقيب ابن كثير العلامة الشوكاني في: "نيل الأوطار" (8/259).
(6) انظر: نيل الأوطار للشوكاني (8/259).
(7) تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وحواشي الشرواني وابن قاسم عليها (10/217).
(
السنن الكبرى للبيهقي (10/211-213) وقد ذكر من قبل عن محمد بن سيرين إباحتها.
(9) انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه (4/383) ط بيروت- مصورة عن ط بولاق.
(10) الهداية مع فتح القدير (6/38).
(11) البحر الرائق شرح كنز الدقائق (7/91).
(12) الروضة (11/225) ط المكتب الإسلامي.
(13) إنما قال: علي الصحيح لأنه في وجه آخر: أنه مكروه كما في الروضة ص 226.
(14) التحفة مع حواشيها (10/216، 217).
(15)أي الحكم بأنه عاص؛ لأنه حينئذ غير معذور بغفلته ونسيانه، وقد أجاب الإمام الشافعي في الأم عن هذا الاستشكال بقوله: فإن قيل: فهو لا يترك وقتها للعب إلا وهو ناس ! قيل: فلا يعود للعب الذي يورث النسيان، فإن عاد له وقد جربه أنه يورثه ذلك، فذلك استخفاف. (الأم 6/213 ط. الشعب القاهرة) . قال في التحفة: وحاصله أن الغفلة نشأت من تعاطيه للفعل الذي من شأنه أن يلهي عن ذلك، فكان كالمتعمد لتفويته. ويجري ذلك في كل لهو ولعب مكروه، ومشغل -أي شاغل- للنفس ومؤثر فيها تأثيرًا يستولي عليها، حتي تشتغل به عن مصالحها الأخروية؛ بل يمكن أن يقال ذلك في شغل بكل مباح؛ لأنه كما يجب تعاطي مقدمات الواجب، يجب تعاطي ترك مفوتاته، والكلام فيمن جرب نفسه أن اشتغاله بذلك المباح يلهيه حتى يفوت به الوقـــت. أ هـ. التحفة 10/217).
(16) الروضة (11/226).
(17) (الأم 6/213 ط الشعب).
(18) البيان والتحصيل (18/436).
(19) تقدم تخريجه.
(21) تقدم تخريجه.
(21) البيان والتحصيل (17/577، 578).
(22) انظر: الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي عليه.
(23) قد ثبت الخلاف في تحريمه، كما هو مذكور في موضعه.
[24]قد نقلنا أقوال المذهبين من قبل.
(29) المغني (9/172، 173) المطبعة اليوسفية.
[26]الحديث أخرجه مالك في الموطأ (2/958/6) وأحمد في المسند (23025،22979) وأبو داود (4938)، وابن ماجة (3762)، والحاكم 1/50 وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. كما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد. وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 6529) .
[27]رواه مسلم في كتاب الشعر برقم (2260) وأبو داود (4939) وابن ماجه (3763) .
(28) رواه الترمذي (1637) عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، وهو مرسل، وفيه عنعنة ابن إسحاق، لكنه روى عن عتبة بن عامر مثله، وإن لم يذكر لفظه، وقال: حسن صحيح، وهو عند أبي داود (2513) والنسائي في الجهاد، وابن ماجه (2811) ووصفه العراقي في تخريج الإحياء بأنه مضطرب، وذكره الألباني في ضعيف الترمذي(2779 ).
(29) نيل الأوطار (8/258) ط. دار المعرفة، بيروت.
(30) نفسه ص 259.
(31) سبق تخريجه .
(32) سبق تخريج هذه الأحاديث .
(33)وجوّد المنذري في: "الترغيب" إسناده بعد أن عزاه للطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال الطبراني رجال الصحيح، خلا عبد الوهاب بن بخت، وهو ثقة ( 6/ 269 ) وذكره الألباني في: سلسلة الأحاديث الصحيحة (315).
(34) سير أعلام النبلاء (5/ 4241) .
(35) متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان ( 1091) رواه البخاري في الديات ( 6878 ) ومسلم في القسامة والمحاربين ( 1676 ) عن ابن مسعود .
(36)إحياء علوم الدين (2/285) ط دار المعرفة- بيروت، وانظر ما نقلناه عنه حول ذلك في فتوى "الغناء".
(37) نيل الأوطار (8/270).
(38)إرواء الغليل (8/288، 289) حديث (2672).
(39) انظر: الدراية لابن حجر ( 2/ 240).
(40) نيل الأوطار (8/259)
(41)المصدر السابق.
(42) المصدر السابق نفسه .
(43) انظر: تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر وحواشي الشرواني وابن قاسم عليه (10/216)
(44) تفسير المنار (8/62، 63).